د. رغيد الصلح
يحتفل العالم في العاشر من ديسمبر من كل عام بالذكرى العالمية لصدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان. وهذا اليوم مهم بالنسبة الى الدول العربية التي ساهمت عبر مندوب لبنان د. شارل مالك في رسم المبادئ الرئيسية للاعلان. كما أن هذا اليوم مهم للدول العربية لأنه يذكرنا بهذا الاعلان وبما تضمنه من قيم ومعايير لا تعصم الأمم والشعوب من ارتكاب الانتهاكات الاخلاقية فحسب، وإنما تدلها ايضا على الطريق الى التقدم والى النهوض والى تلبية حاجات افرادها وجماعاتها حتى يعيشوا في مستويات انسانية لائقة.
وعندما يتذكر المرء هذه القيم والمعايير بعد مضي 59 عاماً على صدورها فإنه لا يسعه إلا أن يلاحظ استمرار الفارق المتفاقم بين متطلبات العيش الانساني الكريم، كما بينته الوثيقة العالمية، وواقع المنطقة العربية، فالمنطقة لا تزال بعيدة، كما تشهد بذلك منظمات دولية عديدة مثل برنامج الأمم المتحدة الانمائي أو لجنة العفو الدولية أو منظمات حقوق الانسان في الدول العربية، عن الايفاء بهذه المتطلبات سواء كانت في مجال السياسة أو الاقتصاد أو التعليم.
وإذ يصعب على المعنيين بالشأن العام خاصة من اصحاب القرار والسلطة في المنطقة ان يتجاهلوا هذا الواقع، فإنه بات من المعتاد ان يحتدم النقاش حول المسؤول عنه، وأن ينقسم المتناقشون الى فريقين: واحد يحمل التدخل الخارجي المسؤولية الكبرى على هذا الصعيد، وآخر يضع اللوم كل اللوم على اطراف داخلية
والحقيقة هي ان واقع حقوق الانسان في المنطقة لم يأت نتيجة التدخل الخارجي وحده ولا هو منتج محلي بحت، بل هو حصيلة الاثنين معاً.
ويبرز هذا التضافر بين العوامل الخارجية والداخلية على أشده في القضية الفلسطينية التي هي الأكثر استئثاراً بالاهتمام العربي العام، والأكثر تأثيراً على مشاعر المواطنين العرب وعلى نظرتهم الى الأفكار والنظم السياسية، هذا فضلا عن نظرتهم الى العالم الخارجي.لقد كان للتزامن بين صدور الاعلان الدولي لحقوق الانسان، من جهة، وبين اعلان تقسيم فلسطين واعطاء القسم الاكبر والافضل منها الى الحركة الصهيونية ومن ثم اعلان دولة “اسرائيل”، من جهة اخرى، نتائج لا تخفى على المعنيين بتاريخ المنطقة وبتتبع العلاقة بين احداثها.
فهذا التزامن ادى الى تسليط الانظار على التناقض بين مضمون الاعلان وقرار التقسيم. الاعلان يقول: “لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم
اما قرار التقسيم فكان بمثابة سحب الاعتراف بكرامة الفلسطينيين وبحقهم في تقرير مصيرهم على ارضهم. الاعلان يقول ان “تناسي حقوق الإنسان وازدراءها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني” وانه “من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان”، اما قرار التقسيم فقد شرعن الاعمال الهمجية، مثل حرمان الفلسطينيين من وطنهم والتهجير القسري لمئات الألوف منهم، كما اسقط عن الفلسطينيين حماية القانون الدولي التي تمكنهم من التمتع بحقوقهم الانسانية التي نص عليها الاعلان.مشهد التزامن هذا اضعف الى ابعد حد صدقية الامم المتحدة لدى الرأي العام العربي، وفوت على المواطنين العرب ادراك مزايا الاعلان الدولي وما يترتب على هذا الادراك، من تقدير للهيئة الدولية التي اصدرته ومن سعي الى وضع هذه الحقوق موضع التطبيق
ومن المفروض، بعد ستة عقود على الظروف المؤلمة التي احاطت بولادة الاعلان الدولي لحقوق الانسان، ان يتجاوز المرء تلك الملابسات، وأن يمحض المنظمة الدولية والمجتمع الدولي ثقته، بيد ان بعض الاتجاهات الدولية السائدة تدفع باتجاه آخر
فالتراجع الامريكي، بعد اجتماع انابولس، عن تقديم مشروع قرار الى مجلس الأمن يعطي المنظمة الدولية دورًا في قيام الدولة الفلسطينية الموعودة يضعف المنظمة كمرجعية انسانية على كل صعيد.
فمن يحرم الامم المتحدة من دور في الحد من الظلم التاريخي الواقع على شعب فلسطين، يحرمها في نفس الوقت من دور في الضغط على الحكومات من اجل احترام حقوق الانسان.كما كان للتدخل الخارجي المجحف في قضية فلسطين آثاره السلبية على تطور حقوق الانسان في المنطقة العربية، كان لبعض النخب السياسية العربية دورها السلبي على هذا الصعيد ايضا. فالتطور هنا لا يأتي بصورة تلقائية.
انه يحتاج الى حاضن يؤمن له النشوء الطبيعي ويحميه من المعوقات ومن الفيروسات المضادة الكفيلة بوأد مبادرات الاصلاح السياسي والاخلاقي. ويتمثل هذا الحاضن بقوى سياسية واجتماعية فاعلة.
وهذه الصفة تنطبق بصورة خاصة على من يملك النفوذ المادي والمعنوي في المنطقة.وحتى تنزرع مبادئ حقوق الانسان في التربة المجتمعية العربية تحتاج ايضا، فضلاً عن الحاضن، الى نظام سياسي ملائم. والنظام السياسي الاقرب الى تحقيق هذه الغاية هو النظام الديمقراطي
صحيح أن بعض الانظمة غير الديمقراطية تضمن بعض حقوق الانسان مثل الحق في العمل والحق في السكن وفي العناية الصحية، بيد انها تحرم الانسان من حقوقه السياسية التي تشكل الضمانة الكبرى لسائر الحقوق.
بالمقارنة فإن النظام الديمقراطي هو الأجدر بتأمين هذه الحقوق.التطورات المؤلمة الأخيرة التي شهدناها على أرض فلسطين تدلنا على أننا لا نزال نفتقر الى هذين الشرطين من شروط انتشار وترسيخ حقوق الانسان في المنطقة.
ان قيام حكومة غزة بقمع التجمع الشعبي في ذكرى وفاة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كان عملاً مخالفاً لكل القيم التي تضمنها الاعلان العالمي لحقوق الانسان
بالمقابل فإن قيام حكومة الضفة الغربية بقمع الفلسطينيين المحتجين على اجتماع انابولس هو ايضا سلوك مناف لمبادئ حقوق الانسان.
رب متسائل هنا: لماذا التركيز على ما يجري في فلسطين بينما المنطقة العربية تحفل بأدلة لا تنقطع على تعثر مسيرة حقوق الانسان والعجز الديمقراطي في بلادنا؟ هذا صحيح. ولكن ما يجري في فلسطين يبدو الأقرب الى تبلور النزعات الطاردة لحقوق الانسان وللديمقراطية في الحركات السياسية. لقد شاهد العالم العديد من حركات التحرير تتحول الى احزاب تحتكر السلطة بعد ان تنجز عملية التحرير وتستقر في الحكم وتسيطر على البلاد سيطرة مطلقة. هذا ما حدث في اكثر من بلد عربي.
ولكن قلّ أن شهد العالم حركات تحرير ترتد على المواطنين وتقمعهم وهي لا تزال ترزح تحت وطأة المحتل. وما يزيد في عبثية هذه المشاهد وغرابتها انها تتناقض مع تقاليد مجيدة للنضال الفلسطيني الذي كان في السبعينات معبراً “تسللت” من خلاله مبادئ حقوق الانسان وأفكار الديمقراطية مرة اخرى الى ميدان السياسة العربية بعد ان اقصيت عنه بعمليات انقلابية وقسرية.
وإذ يصعب على المعنيين بالشأن العام خاصة من اصحاب القرار والسلطة في المنطقة ان يتجاهلوا هذا الواقع، فإنه بات من المعتاد ان يحتدم النقاش حول المسؤول عنه، وأن ينقسم المتناقشون الى فريقين: واحد يحمل التدخل الخارجي المسؤولية الكبرى على هذا الصعيد، وآخر يضع اللوم كل اللوم على اطراف داخلية
والحقيقة هي ان واقع حقوق الانسان في المنطقة لم يأت نتيجة التدخل الخارجي وحده ولا هو منتج محلي بحت، بل هو حصيلة الاثنين معاً.
ويبرز هذا التضافر بين العوامل الخارجية والداخلية على أشده في القضية الفلسطينية التي هي الأكثر استئثاراً بالاهتمام العربي العام، والأكثر تأثيراً على مشاعر المواطنين العرب وعلى نظرتهم الى الأفكار والنظم السياسية، هذا فضلا عن نظرتهم الى العالم الخارجي.لقد كان للتزامن بين صدور الاعلان الدولي لحقوق الانسان، من جهة، وبين اعلان تقسيم فلسطين واعطاء القسم الاكبر والافضل منها الى الحركة الصهيونية ومن ثم اعلان دولة “اسرائيل”، من جهة اخرى، نتائج لا تخفى على المعنيين بتاريخ المنطقة وبتتبع العلاقة بين احداثها.
فهذا التزامن ادى الى تسليط الانظار على التناقض بين مضمون الاعلان وقرار التقسيم. الاعلان يقول: “لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم
اما قرار التقسيم فكان بمثابة سحب الاعتراف بكرامة الفلسطينيين وبحقهم في تقرير مصيرهم على ارضهم. الاعلان يقول ان “تناسي حقوق الإنسان وازدراءها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني” وانه “من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان”، اما قرار التقسيم فقد شرعن الاعمال الهمجية، مثل حرمان الفلسطينيين من وطنهم والتهجير القسري لمئات الألوف منهم، كما اسقط عن الفلسطينيين حماية القانون الدولي التي تمكنهم من التمتع بحقوقهم الانسانية التي نص عليها الاعلان.مشهد التزامن هذا اضعف الى ابعد حد صدقية الامم المتحدة لدى الرأي العام العربي، وفوت على المواطنين العرب ادراك مزايا الاعلان الدولي وما يترتب على هذا الادراك، من تقدير للهيئة الدولية التي اصدرته ومن سعي الى وضع هذه الحقوق موضع التطبيق
ومن المفروض، بعد ستة عقود على الظروف المؤلمة التي احاطت بولادة الاعلان الدولي لحقوق الانسان، ان يتجاوز المرء تلك الملابسات، وأن يمحض المنظمة الدولية والمجتمع الدولي ثقته، بيد ان بعض الاتجاهات الدولية السائدة تدفع باتجاه آخر
فالتراجع الامريكي، بعد اجتماع انابولس، عن تقديم مشروع قرار الى مجلس الأمن يعطي المنظمة الدولية دورًا في قيام الدولة الفلسطينية الموعودة يضعف المنظمة كمرجعية انسانية على كل صعيد.
فمن يحرم الامم المتحدة من دور في الحد من الظلم التاريخي الواقع على شعب فلسطين، يحرمها في نفس الوقت من دور في الضغط على الحكومات من اجل احترام حقوق الانسان.كما كان للتدخل الخارجي المجحف في قضية فلسطين آثاره السلبية على تطور حقوق الانسان في المنطقة العربية، كان لبعض النخب السياسية العربية دورها السلبي على هذا الصعيد ايضا. فالتطور هنا لا يأتي بصورة تلقائية.
انه يحتاج الى حاضن يؤمن له النشوء الطبيعي ويحميه من المعوقات ومن الفيروسات المضادة الكفيلة بوأد مبادرات الاصلاح السياسي والاخلاقي. ويتمثل هذا الحاضن بقوى سياسية واجتماعية فاعلة.
وهذه الصفة تنطبق بصورة خاصة على من يملك النفوذ المادي والمعنوي في المنطقة.وحتى تنزرع مبادئ حقوق الانسان في التربة المجتمعية العربية تحتاج ايضا، فضلاً عن الحاضن، الى نظام سياسي ملائم. والنظام السياسي الاقرب الى تحقيق هذه الغاية هو النظام الديمقراطي
صحيح أن بعض الانظمة غير الديمقراطية تضمن بعض حقوق الانسان مثل الحق في العمل والحق في السكن وفي العناية الصحية، بيد انها تحرم الانسان من حقوقه السياسية التي تشكل الضمانة الكبرى لسائر الحقوق.
بالمقارنة فإن النظام الديمقراطي هو الأجدر بتأمين هذه الحقوق.التطورات المؤلمة الأخيرة التي شهدناها على أرض فلسطين تدلنا على أننا لا نزال نفتقر الى هذين الشرطين من شروط انتشار وترسيخ حقوق الانسان في المنطقة.
ان قيام حكومة غزة بقمع التجمع الشعبي في ذكرى وفاة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كان عملاً مخالفاً لكل القيم التي تضمنها الاعلان العالمي لحقوق الانسان
بالمقابل فإن قيام حكومة الضفة الغربية بقمع الفلسطينيين المحتجين على اجتماع انابولس هو ايضا سلوك مناف لمبادئ حقوق الانسان.
رب متسائل هنا: لماذا التركيز على ما يجري في فلسطين بينما المنطقة العربية تحفل بأدلة لا تنقطع على تعثر مسيرة حقوق الانسان والعجز الديمقراطي في بلادنا؟ هذا صحيح. ولكن ما يجري في فلسطين يبدو الأقرب الى تبلور النزعات الطاردة لحقوق الانسان وللديمقراطية في الحركات السياسية. لقد شاهد العالم العديد من حركات التحرير تتحول الى احزاب تحتكر السلطة بعد ان تنجز عملية التحرير وتستقر في الحكم وتسيطر على البلاد سيطرة مطلقة. هذا ما حدث في اكثر من بلد عربي.
ولكن قلّ أن شهد العالم حركات تحرير ترتد على المواطنين وتقمعهم وهي لا تزال ترزح تحت وطأة المحتل. وما يزيد في عبثية هذه المشاهد وغرابتها انها تتناقض مع تقاليد مجيدة للنضال الفلسطيني الذي كان في السبعينات معبراً “تسللت” من خلاله مبادئ حقوق الانسان وأفكار الديمقراطية مرة اخرى الى ميدان السياسة العربية بعد ان اقصيت عنه بعمليات انقلابية وقسرية.